الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقد صرح أهل الاستقامة وأئمة الطريق بكفر هؤلاء فأخرجوهم من الإسلام وقالوا لو وصل العبد من القرب إلى أعلى مقام يناله العبد لما سقط عنه من التكليف مثقال ذرة أي ما دام قادرا عليه.وهؤلاء يظنون أنهم يستغنون بهذه الحقيقة عن ظاهر الشريعة وأجمعت هذه الطائفة على أن هذا كفر وإلحاد وصرحوا بأن كل حقيقة لا تتبعها شريعة فهي كفر قال سرى السقطي من ادعى باطن حقيقة ينقضها ظاهر حكم فهو غالط وقال سيد الطائفة الجنيد بن محمد علمنا هذا مشتبه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إبراهيم بن محمد النصرابادي أصل هذا المذهب ملازمة الكتاب والسنة وترك الأهواء والبدع والتمسك بالأئمة والاقتداء بالسلف وترك ما أحدثه الآخرون والمقام على ما سلك الأولون وسئل إسماعيل بن نجيد ما الذي لابد للعبد منه فقال ملازمة العبودية على السنة ودوام المراقبة وسئل ما التصوف فقال الصبر تحت الأمر والنهي وقال احمد بن أبي الحواري من عمل بلا اتباع سنة فباطل عمله وقال الشبلي يوما ومد يده إلى ثوبه لولا أنه عارية لمزقته فقيل له رؤيتك في تلك الغلبة ثيابك وأنها عارية فقال نعم أرباب الحقائق محفوظ عليهم في كل الأوقات الشريعة وقال أبو يزيد البسطامي لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود والشريعة وقال عبدالله الخياط الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مع ما يقع في قلوبهم فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فردهم من القلب إلى الدين والشريعة ولما حضرت أبا عثمان الحيرى الوفاة مزق ابنه أبو بكر.قميصه ففتح أبو عثمان عينيه وقال يا بني خلاف السنة في الظاهر من رياء باطن في القلب ومن كلام ابن عثمان هذا أسلم الطرق من الاغترار طريق السلف ولزوم الشريعة وقال عبدالله بن مبارك لا يظهر على أحد شيء من نور الإيمان إلا باتباع السنة ومجانبة البدعة وكل موضع ترى فيه اجتهادا ظاهرا بلا نور فاعلم أن ثم بدعة خفية وقال سهل بن عبدالله الزم السواد على البياض حدثنا وأخبرنا إن أردت أن تفلح ولقد كان سادات الطائفة أشد ما كانوا اجتهادا في آخر أعمارهم قال القشيري سمعت أبا علي الدقاق يقول رؤى في يد الجنيد سبحة فقيل له أنت مع شرفك تأخذ بيدك سبحة فقال طريق وصلت به إلى ربي تبارك وتعالى لا أفارقه أبدا وقال إسماعيل بن نجيد كان الجنيد يجيء كل يوم إلى السوق فيفتح باب حانوته فيدخله ويسبل الستر ويصلي أربعمائة ركعة ثم يرجع إلى بيته ودخل عليه ابن عطاء وهو في النزع فسلم عليه فلم يرد عليه ثم رد عليه بعد ساعة فقال اعذرني فإني كنت في وردي ثم حول وجهه إلى القبلة وكبر ومات وقال أبو سعيد بن الأعرابي سمعت أبا بكر العطار يقول حضرت أبا القاسم الجنيد أنا وجماعة من أصحابنا فكان قاعدا يصلي ويثني رجله إذا أراد أن يسجد فلم يزل كذلك حتى خرجت الروح من رجليه فثقلت عليه حركتها وكانتا قد تورمتا فقال له بعض أصحابه ما هذا يا أبا القاسم فقال هذه نعم الله الله أكبر فلما فرغ من صلاته قال له أبو محمد الجريري يا أبا القاسم لو اضطجعت فقال يا أبا محمد هذا.وقت يؤخذ فيه الله أكبر فلم يزل ذلك حاله حتى مات ودخل عليه شاب وهو في مرضه الذي مات فيه وقد تورم وجهه وبين يديه مخدة يصلي إليها فقال وفي هذه الساعة لا تترك الصلاة فلما سلم دعاه وقال شيء وصلت به إلى الله فلا أدعه ومات بعد ساعة رحمة الله عليه وقال أبو محمد الجريري كنت واقفا على رأس الجنيد في وقت وفاته وكان يوم جمعة ويوم نيروز وهو يقرأ القرآن فقلت له يا أبا القاسم ارفق بنفسك فقال يا أبا محمد أرأيت أحدا أحوج إليه مني في مثل هذا الوقت وهو ذا تطوى صحيفتي وقال أبو بكر العطوي كنت عند الجنيد حين مات فختم القرآن ثم ابتدأ في ختمة أخرى فقرأ من البقرة سبعين آية ثم مات وقال محمد بن إبراهيم رأيت الجنيد في النوم فقلت ما فعل الله بك فقال طاحت تلك الإشارات وغابت تلك العبارات وفنيت تلك العلوم ونفدت تلك الرسوم وما نفعنا إلا ركعات كنا نركعها في الأسحار وتذاكروا بين يديه أهل المعرفة وما استهانوا به من الأوراد والعبادات بعد ما وصلوا إليه فقال الجنيد العبادة على العارفين أحسن من التيجان على رؤوس الملوك وقال الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول واتبع سنته ولزم طريقته فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه وقال من ظن أنه يصل ببذل المجهود فمتعن ومن ظن أنه يصل بغير بذل المجهود فمتمن وقال أبو نعيم سمعت أبي يقول سمعت أحمد بن جعفر بن هانىء يقول سألت الجنيد ما علامة الإيمان فقال علامته طاعة من آمنت به والعمل بما يحبه ويرضاه وترك التشاغل عنه بما ينقضي ويزول.فرحمة الله على أبي القاسم الجنيد رضي الله عنه ما أتبعه لسنة الرسول وما وما أقفاه لطريقة أصحابه وهذا باب يطول تتبعه جدا يدلك على أن أهل الاستقامة في نهاياتهم أشد اجتهادا منهم في بداياتهم بل كان اجتهادهم في البداية في عمل مخصوص فصار اجتهادهم في النهاية الطاعة المطلقة وصارت إرادتهم دائرة معها فتضعف الاجتهاد في المعنى المعين لأنه كان مقسوما بينه وبين غيره ولا تصغ الى قول ملحد قاطع للطريق في قالب عارف يقول إن منزلة القرب تنقل العبد من الأعمال الظاهرة إلى الأعمال الباطنة وتحمل على الاستهانة بالطاعات الظاهرة وتريحه من كد القيام بها.فصل:قوله وتخلص من رعونة المعارضات يريد أن هذه الملاحظة تخلص العبد من رعونة معارضة حكم الله الديني والكوني الذي لم يأمر بمعارضته فيستسلم للحكمين فإن ملاحظة عين الجمع تشهده أن الحكمين صدرا عن عزيز حكيم فلا يعارض حكمه برأي ولا عقل ولا ذوق ولا خاطر وأيضا فتخلص قلبه من معارضات السوى للأمر فإن الأمر يعارض بالشهوة والخبر يعارض بالشك والشبهة فملاحظة عين الجمع تخلص قلبه من هاتين المعارضتين وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من لقي الله به هذا تفسير أهل الحق والاستقامة وأما أهل الإلحاد فقالوا المراد بالمعارضات هاهنا الإنكار على الخلق فيما يبدو منهم من أحكام البشرية لأن المشاهد لعين الجمع يعلم أن مراد الله من الخلق ما هم عليه فإذا علم ذلك بحقيقة الشهود كانت المعارضات والإنكار عليهم من رعونات الأنفس المحجوبة.وقال قدوتهم في ذلك العارف لا ينكر منكرا لاستبصاره بسر الله في القدر وهذا عين الاتحاد والإلحاد والانسلاخ من الدين بالكلية وقد أعاذ الله شيخ الإسلام من ذلك وإذا كان الملحد يحمل كلام الله ورسوله ما لا يحتمله فما الظن بكلام مخلوق مثله فيقال إنما بعث الله رسله وأنزل كتبه بالإنكار على الخلق بما هم عليه من أحكام البشرية وغيرها فبهذا أرسلت الرسل وأنزلت الكتب وانقسمت الدار إلى دار سعادة للمنكرين ودار شقاوة للمنكر عليهم فالطعن في ذلك طعن في الرسل والكتب والتخلص من ذلك انحلال من ربقة الدين ومن تأمل أحوال الرسل مع أممهم وجدهم كانوا قائمين بالإنكار عليهم أشد القيام حتى لقوا الله تعالى وأوصوا من آمن بهم بالإنكار على من خالفهم وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: «أن المتخلص من مقامات الإنكار الثلاثة ليس معه من الإيمان حبة خردل» وبالغ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أشد المبالغة حتى قال: «إن الناس إذا تركوه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» وأخبر أن تركه يمنع إجابة دعاء الأخيار ويوجب تسلط الأشرار وأخبر أن تركه يوقع المخالفة بين القلوب والوجوه ويحل لعنه الله كما لعن الله بني إسرائيل على تركه فكيف يكون الإنكار من رعونات النفوس وهو مقصود الشريعة وهل الجهاد إلا على أنواع الإنكار وهو جهاد باليد وجهاد أهل العلم إنكار باللسان وأما قوله إن المشاهد أن مراد الله من الخلائق ما هم عليه فيقال له الرب تعالى له مرادان كوني وديني فهب أن مراده الكوني منهم ما هم عليه فمراده الديني الأمري الشرعي هو الإنكار على أصحاب المراد الكوني فإذا عطلت مراده الديني لم تكن واقفا مع مراده الديني الذي يحبه.ويرضاه ولا ينفعك وقوفك مع مراده الكوني الذي قدره وقضاه إذ لو نفعك ذلك لم يكن للشرائع معنى البتة ولا للحدود والزواجر ولا للعقوبات الدنيوية ولا للأخذ على أيدي الظلمة والفجار وكف عدوانهم وفجورهم فإن العارف عندك يشهد أن مراد الله منهم هو ذلك وفي هذا فساد الدنيا قبل الأديان فهذا المذهب الخبيث لا يصلح عليه دنيا ولا دين ولكنه رعونة نفس قد أخلدت إلى الإلحاد وكفرت بدين رب العباد واتخذت تعطيل الشرائع دينا ومقاما ووساوس الشيطان مسامرة وإلهاما وجعلت أقدار الرب تعالى مبطلة لما بعث به رسله ومعطلة لما أنزل به كتبه وجعلوا هذا الإلحاد غاية المعارف الألهية وأشرف المقامات العلية ودعوا إلى ذلك النفوس المبطلة الجاهلة بالله ودينه فلبوا دعوتهم مسرعين واستخف الداعي منهم قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين وأما قوله إن الإنكار من معارضات النفوس المحجوبة فلعمر الله إنهم لفي حجاب منيع من هذا الكفر والإلحاد ولكنهم يشرفون على أهله وهم في ضلالتهم يعمهون وفي كفرهم يترددون ولأتباع الرسل يحاربون وإلى خلاف طريقهم يدعون وبغير هداهم يهتدون وعن صراطهم المستقيم ناكبون ولما جاءا به يعارضون {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} فصل قوله وتفيد مطالعة البدايات يحتمل كلامه أمرين أحدهما أن ملاحظة عين الجمع تفيد صابحها مطالعة السوابق التي ابتدأه الله بها فتفيده ملاحظة عين الجمع نظرة إلى أولية الرب تعالى في كل شيء ويحتمل أن يريد بالبدايات بدايات سلوكه وحدة طلبه فإنه في حال سلوكه لا يلتفت إلى ما وراءه لشدة شغله بما بين يديه وغلبة أحكام الهمة عليه فلا يتفرغ لمطالعة بداياته فإذا لاحظ عين الجمع قطع السلوك الأول وبقى له سلوك ثان فتفرغ حينئذ إلى مطالعة بداياته ووجد اشتياقا منه إليها كما قال الجنيد واشوقاه إلى أوقات البداية يعني لذة أوقات البداية وجمع الهمة على الطلب والسير إلى الله فإنه كان مجموع الهمة على السير والطلب فلما لاحظ عين الجمع فنيت رسومه وهو لا يمكنه الفناء عن بشريته وأحكام طبيعته فتقاصت طباعه ما فيها فلزمته الكلف فارتاح إلى أوقات البدايات لما كان فيها من لذة الإعراض عن الخلق واجتماع الهمة ومر أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه على رجل وهو يبكي من خشية الله فقال هكذا كنا حتى قست قلوبنا وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لكل عامل شرة ولك شرة فترة» فالطالب الجاد لا بدأن تعرض له فترة فيشتاق في تلك الفترة إلى حاله وقت الطلب والاجتهاد ولما فتر الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يغدو إلى شواهق الجبال ليلقى نفسه فيبدو له جبريل عليه السلام فيقول له إنك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسكن لذلك جأشه وتطمئن نفسه» فتخلل الفترات للسالكين أمر لازم لابد منه فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد ولم تخرجه من فرض ولم تدخله في محرم رجى له أن يعود خيرا مما كان قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه إن لهذه القلوب إقبالا وإدبارا فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل وإن أدبرت فألزموها الفرائض وفي هذه الفترات والغيوم والحجب التي تعرض للسالكين من الحكم مالا يعلم تفصيله إلا الله وبها يتبين الصادق من الكاذب فالكاذب ينقلب على عقبيه ويعود إلى رسوم طبيعته وهواه والصادق ينتظر الفرج ولا ييأس من روح الله ويلقى نفسه بالباب طريحا ذليلا مسكينا مستكينا كالإناء الفارغ الذي لا شيء فيه البتة ينتظر أن يضع فيه مالك الإناء وصانعه ما يصلح له لا بسبب من العبد وإن كان هذا الافتقار من أعظم الأسباب لكن ليس هو منك بل هو الذي من عليك به وجردك منك وأخلاك عنك وهو الذي يحول بين المرء وقلبه فإذا رأيته قد أقامك في هذا المقام فاعلم أنه يريد أن يرحمك ويملأ إناءك فإن وضعت القلب في غير هذا الموضع فاعلم أنه قلب مضيع فسل ربه ومن هو بين أصابعه أن يرده عليك ويجمع شملك به ولقد أحسن القائل:
. اهـ.
|